الفارس الصعلوك – عروة بن الورد ثوري سبق الفلسفات الاشتراكية بقرون

الدكتور عارف الكنعاني

الصعاليك.. سمعت هذا اللفظ للمرة الأولى، وأنا على مقاعد الدراسة في المرحلة المتوسطة من التعليم، وأثارني لفظ “صعلوك” الذي سمعته يتردد بين أقراني، عندما يريدون أن يسبوا، أو يسخروا من رفيق لنا رث الهيئة فقير الحال والنسب والحسب.

ولكنني عندما درست ظاهرة الصعلكة في تاريخنا القديم، فوجئت أن الصعلوك لم يكن بذلك المفهوم الذي وصلت إليه من خلال شرح مدرس اللغة العربية، وهو يقول: كان الصعاليك خارجين عن القانون، وكانوا لصوصاً وقطاع طريق. وعندما عدت إلى معاجم اللغة، خاصة قاموس الفيروز بادي ولسان العرب لابن منظور، وجدت أن معنى الصعلكة هو الفقر، والصعلوك هو الفقير الذي لا مال له يستعين به ولا اعتماد له على شيء أو أحد.

ولكن، وبعد اطلاعي على حياة بعض الصعاليك تغيرت نظرتي، وأدركت أنني أمام ظاهرة ثورية.

وحتى لا أمضي مع الصعلكة وهي تستحق دراسات وأبحاثاً مستفيضة، فإنني أتوقف مع واحد من الذين يعتبرهم المؤرخون أهم صعاليك الشعر ألا وهم عروة الصعاليك، أو عروة بن الورد، وتأبط شراً، والشنفرى، والسلّيك بن السلكة. أما عروة الصعاليك، فهو عروة بن الورد بن زيد بن عبدالله بن ناشب بن هريم ابن لديم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.

أما لماذا لقب بعروة الصعاليك، فالمراجع العديدة التي تناولت حياة ومسيرة هذا الشاعر أكدت أنه كان بمثابة زعيم أو أمير للمنبوذين الفقراء رعاهم وقدم لهم ما لم يقدمه مجتمع القبيلة التي خرج منها عروة، ثم خرج عليها.

ها هو أبو الفرج الأصفهاني يصفه في كتابه (الأغاني) قائلاً: “عروة بن الورد شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانها وصعلوك من صعاليكها المعدودين المقدمين الأجواد، وكان يلقب بعروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم، إذا أخفقوا في غزواتهم ولم يكن لهم معاش ولا مغزى”.

إن ما سجلته المراجع المختلفة عن حياة وشعر هذا الرجل تضعنا أمام شخصية مختلفة تطل منها صفات تجعلها في عداد الفرسان الشجعان الكرماء.. وصفات أخرى تلوثها بالخطايا وتلقيها في مستنقعات الجريمة.

كانت حياة عروة بن الورد، حياة فارس يدافع عن المضطهدين الذين نبذهم مجتمع الأقوياء وسخرهم كعبيد أذلاء له.

كان عروة بن الورد بعيداً عن الجشع والأنانية، يتغنى بالمروءة ويضحي بحياته دفاعاً عن قيمه ومبادئه.

يقول عروة:

دعيني أُطوِّفْ بالبلادِ لَعَلّني

أفيد غنىً فيه لذي الحقِ محملُ

أليسَ عظيماً أن تلمَّ مُلِمَّةٌ

وليس علينا في الحقوق مَعَوّلُ

فإنْ نحنُ لمْ نملكْ دفاعاً بحَادثٍ

تلمّ به الأيام فالموتُ أجْمَلُ

يرى بعض الدارسين أن هذا الفارس الشاعر كان صاحب فلسفة حياتية خاصة، ولعلها أي هذه الفلسفة سبقت تاريخياً تلك الفلسفات المنادية بالاشتراكية، من خلال سعيه الحثيث ومحاولاته المخلصة لتجميع أولئك الفقراء (الصعاليك) المنبوذين من المجتمع وتأمين حياة كريمة لهم لا بالتصدق عليهم، بل بجعلهم عاملين منتجين، خاصة في الغزو الذي كان يمثل في تلك الفترة من التاريخ مصدراً من مصادر الدخل، وصرحاً من صروح الاقتصاد التي اعتمد عليها المجتمع.

ولعلّ هذه الأبيات لعروة بن الورد توضح تلك الفلسفة، يقول عروة:

ذريني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرُّهـم الفقيـرُ

وأدناهـم وأهْوَنُهم عليهـم وإن أمسى له حسبٌ وخِيرٌ

يباعـده القريــبُ وتزدريـــه حليلتــه، ويقهـره الصغيـرُ

ويُلْقى ذو الغنى ولهُ جلالٌ يكــاد فـؤاد لاقيــهِ يطيـرُ

قليـلٌ ذنبُــهُ والذنــبُ جــمٌّ ولكـن للغِنـى ربٌّ غفــورُ

امتلأت كتب الأقدمين بأخبار عروة، ولكنها جميعها على اختلاف اتجاهاتها اتفقت على أن الشاعر كان جواداً كريماً ومخلصاً لا يغدر ولا يخدع يسارع إلى مساعدة الآخرين.

يقول أبو الفرج الأصفهاني: كان عروة بن الورد إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف. وكان عروة يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدة، ثم يحفر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف (الحظيرة) ويكسبهم، ومن قوي منهم، إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تعود قوته خرج به معه فأغار وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيباً، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا (صار عندهم لبن) ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى.

وقد عرف عروة بن الورد بإنسانيته ورقته وأدبه الرفيع في معاملة زوجاته. وقد أثنت عليه زوجته الكنانية التي كان قد أسرها وتزوجها، ثم ردها إلى أهلها بعد أن فاداها الأهل، فقد قالت قبل أن تفارقه:

ـ يا عروة، والله ما أعلم أن امرأة ألقت سترها على بعلٍ خيرٍ منك، وأغض طرفاً، وأقل فحشاً، وأجود يداً، وأحمى لحقيقته.. والله إنك ما علمت، لضحوكٌ مقبلاً كسوبٌ مدبراً، خفيف على متن الفرس، ثقيل على العدو، كثير الرماد، راضي الأهل والجانب (الغريب).

وقد روي أن عمرو بن الخطاب قال للحطيئة، وهو يسأله عن قومه بني عبس:

ـ كيف كنتم في حربكم؟

قال: كنا ألف حازم.

قال: وكيف؟

قال: كان فينا قيس بن زهير وكان حازماً وكنا لا نعصيه، وكنا نقدم إقدام عنترة ونأتم بشعر عروة بن الورد وننقاد لأمر الربيع بن زياد.

وقد امتدح عروة بن الورد كثير من الخلفاء الأمويين والعباسيين، فهذا معاوية بن أبي سفيان أول خليفة أموي يقول:

ـ لو كان لعروة بن الورد ولد، لأحببت أن أتزوج إليهم.

وهذا عبدالملك بن مروان أحد أهم خلفاء بني أمية يقول:

ـ من زعم أن حاتمٍ الطائي أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد. وقال أيضاً:

ـ ما يسرني أن أحدا مِن العرب ولدني ممن لم يلدني إلا عروة بن الورد.

◆ ولماذا يا أمير المؤمنين.

ـ أليس هو القائل:

وَإني امرؤ عافي إنائي شركةٌ

وأنت امرؤ عافي إنائِكَ واحدُ

أتهزأ مني إن سمِنتُ وأن ترى

بجسميَ مسَّ الحقِّ والحقُّ جاهدُ

أفرِّقُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ

وأحسو قراحَ الماء وهو باردُ

عاش عروة بن الورد حياة الصعاليك، ولكنه كان مؤمناً أن ثورته على مجتمعه كان لها ما يبررها.. فهو ليس ضد الصفات والشيم الجميلة، ولكنه ثار على القيم البالية والقبيحة.. فالجود، شيمة يحتاج إليها المجتمع، فيعطف الغني على الفقير ويقضي حاجته، ولا يحقد الفقير على الغني فيطلب حياته، والبخل عكس الجود فالغني البخيل لا يستطيع الحفاظ على ثروته في ظل مجتمع ينظر إليه فقراؤه نظرة الحقد والكراهية.

وما روته بعض المراجع أن عروة بن الورد علم أن رجلاً من بني كنانة كثير المال شديد البخل فبعث إليه عيوناً، فأتوه بخبره فشد على إبله ثم قسمها في قومه محدداً بأبيات قليلة موقفه من الثراء.. فهو وإن كان يبحث عنه فهو لا يريده لنفسه، بل للآخرين أيضاً أو ليستطيع مساعدة المحتاجين في مجتمعه.

يقول:

ما بالثراءِ يَسودُ كلُّ مسوّدٍ

مثرٍ، ولكن بالفعالِ يسودُ

بل لا أُكاثِرُ صاحبي في يُسرهِ

وأصدُّ إذْ في عيشِهِ تصريدُ

فإذا غنيت فإن جاري نيلُهُ

من نائلي وميسِّري معهودُ

وإذا افتقرت فلن أُرى متخشعاً

لأخي غنى معروفهُ مكدودُ

أما حكاية قصيدته التي أختار لكم بعض أبياتها، فهي تلخص فلسفته وتدافع عن اختياره حياة الصعلكة التي يرى فيها الخلاص من الظلم والاستبداد في ظل قبيلته أو مجتمعه.. ولعلّ هذا الحوار الذي دار بينه وبين زوجته هو الذي أثار فيه نار الشعر وجعله ينظم تلك الأبيات.

الزوجة: إلى أين تمضي يا عروة في حياتك هذه؟

عروة: لا أدري يا أم حسان.

◆ ألن تتغير؟

ـ أتغير.. ماذا تعنين يا أم حسان؟

◆ حياتك تقوم على المخاطر.. إنك تلقي نفسك بالتهلكة.. تصنع العداوات وتخوض غمار الموت ؟ لست فقيراً لتطلب الغنى.. ولكنك مبذّر، لا تجمع ثروة إلا لتوزعها.. فمتى ستقرر وتستقر؟ هل ظل لك إلا الموت مستقراً يا عروة؟

ـ وهل حياة الذل والظلم التي تريدين أن أستقر فيها أخف وطأة من الموت؟ لا يا أم حسان.. لا تحسبي أنني أبحث عن الثراء بل إني أشتري بحياتي أسباب المجد.. وأطلب الخير للناس وأكره الظلم والظالمين وأنت تعرفين الطريق التي اخترتها.

◆ أعرف شيئاً واحداً.. نحن نحبك يا عروة.. ونريدك أن تعيش.

ـ إذن اسمعي يا أم حسان.. اسمعي ردي عليك بهذه الأبيات..

أقِلّي عليَّ اللومَ يا ابنَةَ مُنذرٍ

ونامي وإن لم تشتهي النومَ فاسْهَري

ذريني ونفسي أمَّ حسّانَ إنني

بهَا قبلَ أن لا أملكَ البيعَ مشتري

أحاديثَ تبقَى والفتى غيرَ خالدٍ

إذا هَُوَ أمسى هامةً فوقَ صُيّرِ

تُجاوِبُ أحجارَ الكناسِ وتشتكي

إلى كلِّ معروفٍ رأتهُ ومُنكرِ

ذَريني أُطوّفْ في البلادِ لَعَلَّني

أُخَلِّيكِ أو أغنيكِ عنْ سوء مَحضرِ

فإن فازَ سَهْمٌ للمنيةِ لم أكُنْ

جزوعاً وَهَلْ عَنْ ذاكَ مِنْ مُتأَخِّرِ

وإن فازَ سهمي كفَّكم عَنْ مقاعدٍ

لكُمْ خلفَ أدبار البيوتِ ومنظرِ

تقولُ لكَ الويلاتُ هَل أنتَ تاركٌ

ضُبُوّاً برَجْلٍ تارةً وبمِنسَرِ

ومُسْتثبتٌ في مالِكَ العامَ إنني

أراكَ على أقتاد صرماءَ مُذكرِ

فجوعٌ لأهلِ الصالحينَ مَزلّةٌ

مخوفٌ رداها أن تصيبكَ فاحْذرِ

أبى الخفضَ من يَغشاكِ من ذي قرابةٍ

ومن كل سوداءِ المَعاصِمِ تعتري

ومستهنئ زيدٌ أبوه فلا أرى

لَهُ مدفعاً فَاقني حياءكِ واصبري

لَحا اللهُ صُعلوكاً إذا جنَّ ليلُهُ

مصافي المُشاشِ آلفاً كلَّ مجزرِ

يَعُدُّ الغِنى مِن نفسهِ كلَّ ليلةٍ

أصابَ قِراها مِن صديقٍ ميَسَّرِ

ينامُ عِشاءً ثُمَّ يصبحُ ناعسَاً

يَحث الحصَى عنْ جنبهِ المتعفرِ

يُعينُ نِساءَ الحيِّ ما يَسْتَعِنَّهُ

ويُمسي طليحاً كالبعيرِ المُحَسَّرِ

ولكنَّ صُعلوكاً صفيحَةُ وجْهِهِ

كضَوْءِ شِهابِ القابسِ المُتنوِّرِ

مُطِلّاً على أعدائِهِ يزجرونَهُ

بِساحَتهِمْ زجرَ المنيحِ المُشَهَّرِ

إذا بَعُدوا لا يأمنونَ اقترابهُ

تشوُّفَ أهلِ الغائبِ المُتَنَظِّرِ

فَذلِكَ إذ يلقى المنيّة يلقها

حميداً وإن يسْتَغْنِ يوماً فأجَْدِرِ

أيهلك مُعتمٌّ وزيدٌ ولَمْ أقُمْ

على نَدَبٍ يَوْماً ولَي نفسُ مُخطِرِ

سَتُفْزِعُ بعدَ اليأسِ من لا يَخافنا

كَواسِعُ في أخرى السَّوامِ المُنَفّرِ

يطاعنُ عَنها أول القومِ بالقنا

وبيضٍ خفافٍ ذاتِ لونٍ مُشَهّرِ

فيوماً على نجدٍ وغاراتِ أهلها

ويَوْماً بأرضٍ ذاتِ شتٍ وعَرْعرِ

يناقِلنَ بالشُمْطِ الكرامِ أوَلي القوى

نقابَ الحجازِ في السَّريح المسيّرِ

يريحُ عليَّ الليل أضيافَ ماجدٍ

كَريمٍ ومالي سارحاً مالُ مُقْتِرِ

المصادر والمراجع:

1 – ديوان عروة بن الورد/ شرح الدكتور عمر فاروق الطباع.

2 – ديوان عروة بن الورد/ شرح ابن السكيت.

3 – الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني.

4 – القاموس المحيط/ الفيروز أبادي.

المصدر: الاتحاد

مع تحيات:

الــــــــوطــــــــن™
اتبعني Follow @AlWatanUAE
www.alwatan.ae

أكتب هنا